بإمكانك احتساء الشاي في اي مكان وزمان شئت وأن تتلذذ بهذا المشروب الصحي السحري في اي منها، لكن ذلك لن يعادل أبدا تناول الشاي في الصحراء
في المخيال الجمعي، يعني احتساء ثلاثة أكواب متواترة من الشاي الاخضر بالنعناع جلسة ممتعة ومطولة مرفقة بطقوس رائعة وأصيلة
جلسة الشاي في الحقيقة مكان وزمان للم الشمل واشباع الحواس كلها : السمع والبصر والشم والذوق واللمس ولكن أيضًا وقبل كل شيء الروح وتكتسي في الصحراء الجزائرية طقوسا وتقاليد وفلسفة ترتبط ارتباطًا وثيقًا بفن العيش اليومي ببساطتها وعفويتها

كما ترتبط بعادات الضيافة في توقف المسافر المرتحل الى الواحة، وهي الوجهة المرحلية او النهائية للسفر
واذا كانت مراسم الشاي الياباني الاصيلة الشهيرة تكتسي الجلال والرونق والجمال فإن الحكمة في مراسم الشاي في الواحة الصحراوية تربط ارتباطا وثيقا بأصالة وتجذر علاقة الحياة الاجتماعية للسكان بثقافة الأجداد
“إنها مراسم تقوم بشكل أساسي على البحث عن التوازن في بيئة صعبة المراس قوامها الترابط والتأمل والتشاور واللياقة تجاه الاخر سواء أكان قائما أم مرتحلا فإخماد عطش المرء بهذا المشروب هو ذروة الإحسان”، هكذا أخبرتنا الجدة زهرة على روحها السلام
ويحتفظ احتفال الشاي بتفوّقه كعادة اجتماعية يومية رائقة ومحبوبة يطعمها إحساس فني مرهف ورغبة جامحة في نقل الرسالة الثقافية وتلقيها، وهذا جانب مهم من هذه المسألة.
التراث الشفهي للصحراء الجزائرية، في الواقع، غني جدًا بالقصائد والأغاني والأمثال المليئة بالحكمة، سواء بين البدو أو المستقرين الذين يشهد تشبثهم بجلسة الشاي صيفا وشتاء على المتعة والسكينة التي توفرها المراسم البطيئة التي يتراسها كبير العائلة ولا يستثنى منها الاطفال
ثم يأتي دور الفولكلور الذي ترسخ من غابر الأيام ليمنح البروتوكول المشفر نطاقًا كاملاً للتسلسل الهرمي لأعضاء.الجلسة ودرجات الشاي رغم كونه مشروبا حديثا نسبيا في الواحات تفوقه القهوة عند البدو، وهي المشروب التقليدي للقارة السوداء، والتي تورد أكثر من نصف الطلب العالمي، حيث تورد بعض المراجع شهادة لضباط ومستكشف فرنسيين شاركوا في العديد من الرحلات الاستكشافية الفرنسية إلى إفريقيا منذ نهاية القرن الثامن عشر، قصد رسم خارطة طريق لعبور الصحراء باتجاه السودان والتي انطلقت من ورقلة ومرت بالطاسيلي والهقار، وكان هدفها ربط المستعمرات الفرنسية في شمال أفريقيا وأفريقيا السوداء
تقديم الشاي: طقوس متفردة
إن مسار جلسة الشاي في البيت او في الهواء الطلق وتواتر الحركات والإيماءات وأناقتها، وكذا الأبعاد الفلسفية والجمالية كلها جوانب مثيرة للاهتمام يجب مراعاتها في معرض الحديث عن شرب الشاي الصحراوي
فالحري بنا استرجاع الجوانب التاريخية والفنية لطقوس مشروب أميري فخم موجه لعلية القوم سابقا، وتمت دمقرطته الان حيث كان الشاي في البداية عنصرًا فاخرًا يضاف للنظام الغذائي يتم استيراده من بعيد، ربما من كينيا، ثالث أكبر منتج في العالم، وكذلك أدواته وملحقاته
فلطالما عبر الشاي عن الهيبة والرفاهية، خاصة بين الأعيان وتحتفظ بعض العائلات الى اليوم بأدوات صينية الشاي التي لا تقدر بثمن والموروثة عن الأجداد بكل حب لتمثل لديها شبه قطع من المتحف العائلي يحافظ عليها بنخوة السبق
تجد في بعض البيوت حاوية المياه المعروفة باسم “البابور” الذي لم يعد معروفا في زمننا وهو إناء مصنوع من النحاس ذي الألوان الثلاثة، ويحتوي على ثلاثة مستويات: واحد للجمر، والثاني للماء، وأخيراً الموقد، وكلها على أربع أرجل يضاف إليها صينية نحاسية كبيرة وبنفس القدر من الفخامة، فإن أكواب الطاووس الصينية الصغيرة وإبريق الشاي، البراد الفخم، أعجوبة مغربية من النحاس الأبيض

أما الأواني الأخرى فهي على التوالي ربعيات لاتاي، وهي صناديق حديدية صعيره صينية الصنع تسمى الأرباع المزخرفة لتحوي الشاي والسكر والنعناع الجاف، وطبعا صندوق كبير من الخشب والجلد من صنع تارقي لتخزين أواني الشاي ومنديل قطني للتجفيف
أما في الوقت الحاضر، فقد أصبحت الميول أكثر رصانة، فحلت الاباريق من مختلف الاحجام بعضها من الحديد المطلي أو الفولاذ المقاوم للصدأ محل أدوات الصينية الفاخرة التي لم تعد تُعرض عيناتها إلا في مناسبات نادرة.كالأعراس والخطبة
في الماضي، كان الرجال فقط من يحضرون الشاي من أجل متعتهم الشخصية ومتعة الأصدقاء أو الضيوف المميزين، كما تقول الحاجة زهرة مضيفة أن : “النساء ، من جانبهن كن يحتسين الشاي من وقت لآخر كتحلية صغيرة
كما اخذ الشاي الاخضر مكانته الطبيعية في الاحتفاليات العائلية و الدينية الرائعة، وعلى عكس المشرق، اضحى الشاي الأخضر أكثر شيوعًا مع زيادة النعناع الاخضر، طازجًا ومجففًا
المكونات الأخرى هي السكر لتهذيب المرارة الطبيعية لأوراق الشاي، والفول السوداني كمرافق دائم مع بعض المكسرات حين تسنح الفرصة، وأخيراً البخور التقليدي الذي يضفي على الاجواء لمسة خاصة
وطبعا تمتاز الطقوس بحضور موقد نار يسطع بحرارة خفيفة تلطف الجو وتعطيه شاعرية خاصة والهدف من العملية هو تحضير مشروب ذهبي تعلوه رغوة بيضاء أمام الضيوف الجالسين حول كبار العائلة، حيث يتم تداول كؤوس تترقبها العيون والانفس ضمن ثلاث جولات بطيئة وفي هدوء محبوب يتناول فيه المشروب السحري برشفات صغيرة

وقت للأحبة
احتفالية الشاي الموصوفة على هذا النحو تتم وفقًا لتقاليد ثابتة تستغرق ساعة ونصف على اقل تقدير، وهو وقت يخصصه من خبروا هذا النوع من الجلسات العائلية بسعادة يتذوقونها لحظة بلحظة مليئة بالمتعة حيث يتم استحضار الحكايات والاشعار والحالات الذهنية على أرضية ودية ومنبسطة
يختلف تواتر عملية تحضير الشاي في بعض التفاصيل ولكنه يحترم عموما ما ذكرناه من اجواء وموارد حسب المنطقة، فعادة ما يتم غلي الماء اولا الا انه يكون باردا في بعض الواحات من أقصى جنوب شرق البلاد اين يستعمل مقدار متوسط من أوراق الشاي الذي يمتزج فيه خليط من “الشعرة” وهي الأوراق الطويلة و”المكعبر” أي الأوراق المستديرة، مع قدر من النعناع الاخضر المجفف، لتوضع في إبريق الشاي على اليسار
وبعد غسل الأوراق، يُسكب الماء المغلي فوق خليط الشاي بالنعناع، والذي سيوضع على الجمر لمدة ربع ساعة، يتم بعدها انزال السائل المطبوخ في إبريق الشاي الثاني على اليمين، والذي يحوي النعناع الطازج، ليتم رفعه عدة مرات لخلط المشروب ببعض السكر وادخال الاوكسجين عليه لتشكيل رغوة بيضاء كثيفة ترادف الحظ والثروة عند العارفين، كنزع من الفأل الطيب
ثلاثة، سحر العدد
ووفقًا للأذواق وللأوضاع الصحية لكل مشارك في جلسة الشاي، فإن الكوب الأول مختلف تمامًا عن البقية، إذ يمكنه أن يكون خاليًا تمامًا من النعناع الطازج ومن السكر او بهما معا أو بأحدهما، لذلك سيتم تقديمه مباشرةً من إبريق الشاي الأول مع أو بدون سكر مضاف بنكهة تحمل مرارة محببة فيطلق على الكأس شاي الرأس الذي يحلو لمحبي الشاي الخام
أما الكوب الثاني فهو المنعنع، حلو المذاق ومعطر بالنعناع الطازج. يُنكه أيضًا بزيت النعناع أو القرنفل على القالب، تلك الكتلة الشهيرة من السكر الأبيض التي تُسكب في قوالب مخروطية الشكل وتخصص لجلسات الشاي في الماضي
أما الكوب الثالث فهو التالي أو لخفيف، رشيق القوام، حلو النكهة وقوي النعناع والذي يحبه الجميع لختم الجلسة على الحلاوة
ما وراء الطقوس يبقى الشيء الأكثر غرابة في جلسات الشاي هو الجو الخاص الذي يصاحب الجلسة التي تتطلب حضورا تاما واحتساء الكؤوس الثلاثة كاملة
ويعد مُعد او مُعدة الشاي بمثابة سيد او سيدة الجلسة بشكل فعلي، ويتم اختياره أو فرضه من قبل الأعضاء المؤثرين ذوي الصلات المشتركة. حينما لا يتعلق الامر بجلسة عائلية تتصدرها الام او الجدة عادة اذ تتطلب القواعد طاعة تامة واذعانا طيبا طيلة الجلسة وهكذا، تصبح الطقوس في بعض الاحيان لعبة مقننة حيث يجب على الضحية أن يدفع شيئا رمزيا، بعد اقتراف خطأ ما، غالبًا ما يكون أن تتحدث بصوت عالٍ، أو تتناول كأسك مباشرة دون إذن من مدير الجلسة أو ترفض مواصلة الجلسة وشرب الكؤوس الثلاثة، فتصبح الجزية التي تطلبها المجموعة مرجأة للجلسة التالية مع جلب حلويات، فواكه مجففة أو اي مادة أخرى حسب الاقتضاء
يطول الوصف ويتجاوز مجرد يوم عالمي للشاي في 15 ديسمبر، فجلسة الشاي هي ببساطة عنوانا للسحر الخفي والتواضع الإنساني لرجال ونساء من الصحراء ينظمون أنفسهم في لحظة من التوحد والمتعة التي لا نظير لها