أينما وُجدَ الجمال فثمة يسكن قلبي، تهيهاوت حلمي ووجهتي …
أنا لا أعتبر نفسي ساكنا في الصحراء، ولكنّ الصحراء هي التي تسكنني، ففي الصحراء قابلتُ الجمال وجها لوجه، وقَطَعْتُ مشوارا طويلا في محاورة الزمن السحيق، إنه الشغف بالطبيعة، يدفعني دائما إلى شَدِّ الرِّحَال شطر مواطن الجمال والافتتان.
لكنّ توغُّلِي في فضاء الصحراء جعلني اكتشف وجها متميزا لمفاتن الأرض؛ فأدركت أنّ الجمال لا يقتصر على المواقع المخضرة فحسب، بل ثمة جمالٌ ساكنٌ مَهيبٌ تشعر وأنت تشاهده بعظمة من جعله تحفة ربّانية، جديرة بالتأمل والإعجاب.

استكشاف
إي نعم، لقد كنتُ الوحيد من بين رفقتي الذي لم يسبق له أن زار تهيهاوت، وما أدراك من هم رفقائي في هذه الرحلة؛ فقائدنا سنجل ايكنوان من أعرف الرجال بدروب الصحراء وأسرارها، وليس هذا بغريب على إيموهاغي أصيل امتهن الرعي في عمق التاسيلي الفسيح منذ صباه؛ مُتَنَقِّلا بين الهقار الشامخ من “ايمّيْدير، وتفديست “ مرورا بإقليم آزجر، وصولا إلى عروق “إين إزوا” بليبيا.

كما أنّ حسين أولاد محمد الصالح، من أكثر الشباب خبرة بمجاهل الصحراء التاسيلية، فكونه ابن آمقيد، ساعده على توثيق علاقته بالتنيري (تنيري كلمة تارقيه تعني الصحراء) ؛ إذ بإمكانه السفر من “إدلس” بتمنراست حتى تخاملات وما بعدها بإيليزي.
أما رفيقنا الثالث صديقي محمد بزام عاشق الصحراء وصاحب الحماس السياحي، فقد سبق له أن زار تيهيهاوت قبل اليوم أكثر من مرتين، ولم يبخل عليَّ بسرد فصول من تجربته السياحية بها.
سنجل
قرَّر سنجل أن تكون وجهتنا مخالفة للطريق الرئيسي الذي يسلكه أغلب الذاهبين إلى تهيهاوت، فغادرنا من الجهة الغربية لتيماسينين، عبر المسلك المؤدي إلى محيط الطيارة، وماهي إلا أمتار قليلة حتى دخلنا الجبهة الرملية “تين تمنجلت” – معناها الناقة السوداء – وهي منطقة رملية تُشَكِّلُها كثبان متفاوتة في الإرتفاع، تمتد على مسافة تزيد عن 60 كلم، وتضم مجموعة من الأماكن والآبار كمنطقة “تايَرِين” التي تُعْتَبر آخر نقطة فيها، وهي – أي تايرين- أرض حجرية تحيط بها الرمال، وتمتد على مسافة 15 كلم.
وتوجد بها بقايا الحجارة السهمية التي استعملها الإنسان القديم في صناعة أدوات الصيد، خلال العصر الحجري القديم. كما أنها غنية بنبات صحراوي يقتاته الجمل عندما يكون مُخْضَرَّاً، ويحتطبه البدو عندما ييبس، ويسمى بالتارقية إِزَرَجْ ويُصَنِّفُه البدو في المرتبة الثانية من حيث الجودة بعد حطب شجرة الطلح، ويعيش في هذا المكان مختلف دواب الصحراء كالفنك والذئب والأرنب والغراب وحمام القطا.

بئر القدماء
وعند نهاية تايرين تبدأ الكثبان الرملية بالانخفاض، إلى أن يصبح الرمل مستويا على أديم الأرض، فيترائى لك من بعيد “آنو وان مهوار” ومعنى هذه التسمية: بئر القدماء، وهو البئر الذي يربط بين محيط الطيارة، ومنبع تان ألاق، وهو منبع مائي جبلي، ومعنى تان ألاق بالعربية: أرض الطين، ويحدد البئر بمعلم حجري يوجد فوق مرتفع صخري ليسترشد به الرعاة، أو الرحالة، أو التائهين في عرض الصحراء، أو العطشى.
بعد وان مهوار تستقبلك حمادة “أغرغر” المفتوحة على السلسلة الجبلية “تان ألاق”، وفي عمق هذه الحماده توجد بقايا مكتب عبور استعلاماتي، يعود إلى حقبة الاحتلال الفرنسي، وقد طُبِعَت على جوانب هذا المكتب المهجور بعض الملصقات التي كان يتركها السياح العابرين.
تسكراف
وعلى مسير 3كلم من المكتب، توصلك الطريق إلى منطقة “تسكراف” الرائعة التي تزينها الحجارة الرملية الرسوبية، بالإضافة إلى الصخور الملساء الظليلة التي ترك الانسان القديم بصمته عليها؛ فرسم الحيوانات البرية التي كان يرعاها أو يعيش على لحومها؛ كالأرنب والبقر والنعام.
وتسكراف كلمة تارقية تعني بالعربية الحجارة المترابطة، إي نعم لقد كاشفتني الصخور في “تسكراف” بأقدم أسرار الأرض التي سكنها الأقدمين، أولم يقل المصور الفوتوغرافي وصانع الافلام الفرنسي يان ارتيس بروتان: الصحراء عالم سري يكلم فقط من يرتحل فيه. ففيها وجدت صورة الوجه الباكي الذي يضاهي روعة البقرة الباكية المنقوشة على الحجارة المنتصبة في أعماق تيغرغرت بجانت التي احتضتني قبل ثلاثة أعوام من الآن.
لكن لماذا وثق الإنسان القديم مشاعر البكاء دون غيرها على صفحات الحجارة الصلبة؟ هل هي طبيعة ابن آدم في تشبثه بذكريات الحزن والمواجع؟ أم أنها شراسة الطبيعة الصحراوية التي أرغمته على البكاء فدفعت به إلى توثيق لحظاته البكائية على الحجر بما يثبت كفاحه المرير ضد ضراوة هذا الفضاء الوعر؟ وكأنه يتحدى الزمن والطبيعة معلنا بقاءه الرمزي رغم القساوة والأحزان.
وكأني به يهمس قائلا: حتى بعد تحللي في التراب، فإن لمساتي الصخرية ستظل شاهدة على مرور الإنسان من هناك، ولن تتمكن الطبيعة من إزالتها رغم قوتها. فهي وإن تفوقت على الإنسان الذي خُلِقَ ضعيفا فإنها لن تتفوق على صلابة الحجر.
ولعل البكاء كان المتنفس الاخير الذي يترجم عاطفة الأسى لدى سكان التاسيلي الصامد أمام قساوة الحياة، في هذه الربوع التي تضج بروائع البصمة الربانية التي جعلتني ألتقط الصور بلهفة عطشان وجد مصدر الماء بعد جهد وعناء، فلم أدع زاوية في تيسكراف إلا والتقطتها بعدسة الضوء الخاطف.

الى تهيهاوت
وما كدت أنتهي من ذلك حتى التحقت بالرفقاء الذين انشغلوا بإعداد الغداء والشاي اللذين استوفيناهما بعد ساعة، واصلنا إثرها المسير بإتجاه تهيهاوت التي بلغنا مشارفها ليلاً، فاتخذنا موقعا مناسبا في بطحاء “إدورغن” الساكنة حيث أنجزنا العشاء بخبز الملة التي أنضجها جمر حطب الطلح العصي على التلف السري
وعلى الرغم من إنبعاث ضوء القمر النازل من كبد السماء، لم يسمح لي الظلام بتبين معالم المكان فنمت مع الرفقاء في عراء الصحراء على شوق إجالة النظر فيه صباح الغد.
سيحل غدا بإذن الله ،وسنرى من أمره ما يكون. تصبحون على ألق وجمال .